آخر الأحداث والمستجدات 

قصص الصوم : جولة الختم ...(ج3)

قصص الصوم : جولة الختم ...(ج3)

أي امرأة هي أنت ؟ قلتها في قرار نفسي دون البوح بها جهرا . الصمت المحير يسود بعد أن نادتني بإسمي ، ولم أسطع السؤال عن رابط خيط معرفتها بي بعد أن سبق لها بتسميتي بالتائه الغريب .  مدت لالة الشريفة يدها نحوي تبتغي المساعدة على الوقوف ، وباليد اليمنى كانت تستند على العكاز الخروبي . حين وقفت دعتني إلى جولة في أزقة وحواري المدينة . لم أرفض طلبها ،ولم أفكر حتى في القبول ، بل أسندت يدها بمرفقي و أوحت  لي بالسير قدما.

في أول خطوة لها تمتمت بكلمات غير مفهومة الدلالة ، لكن سيمياء الشفاه فهمت منها التوكل على قدرة العلي الأعز...كانت مشيتنا غير مستوية المسار، وبطيئة حتى أصبحنا سدا بشريا لمن أراد السير الحثيث ، وكان تمايلنا غير السوي كأننا قد خرجنا حينها من خمارة. لحظة صاحت بي انتبه هناك فجوة حفرة عمرت لما يزيد عن سنتين. عزفت مرافقتي (الشريفة ) على الوتر الذي يسكن مدينة برمتها ، وينغص سلامة ساكنتها . وقلت لها : أين هي مصالح الترميم بالجماعة؟ لما لا تولي أمر الإصلاح والترميم شأن المستعجل؟ أين المجتمع المدني ؟ أين ... ؟ . لكن ختمت قولي أخيرا بابتسامة فيها نوع من المكر والتأسف لحال المدينة ،وهي لا تلحظ ملامح صنيعي مادام وجهها لا يفارق منعرجات درب سيرنا ، ثم خضت في إفاضة التفكير بأن الشريفة عندها حتى مع السياسة ، والله سيتغير وضع مدينتنا بعد الآن، لو أعلنت دعمها المطلق لمطلب تحريك وثيرة التنمية ! ... صوتها قطع تسلسل أفكاري حين نادت بأعلى صوتها ، وهي تحيي أبا المحجوب معلم فران براكة . فيما كان المعلم لم ينظر إلينا ونحن عند الباب ، بل ماثلها بالتحية والسؤال عن حالها ، ثم لاحظت أنها لا تطنب في الكلام معه بل وقفت وهي تنتظر .

وقفت معها بعلامة قف أمام فران تاريخه أبعد من تاريخ ملك المولى إسماعيل ، ورغم أنني أكره الانتظار ، فقد استغلت تلك اللحظة في تصوير المكان باستدارة عيوني والتقاط كل المشاهد غير المألوفة عندي بضرورة التكرر. ها قد خرج مساعد المعلم (الطراح) وبيده خبزة لونها لون الذهب رائحتها تنزل ريق كل لسان عنوة ، أمدها إياها بلطف، باسم الله . شكرت الله على نعمته المستدامة ، وقبلت الخبزة كتكريم عام يسود فعل المغاربة تجاه النعمة  الإلهية ، ثم طالبت بتبليغ شكرها إلى الحاجة بنت القاضي البعاج رحمه الله . هنا تيقنت بأن السيدة التي تشد على يدي بقوة بنت أهل المدينة ، وقد شربت ماء بوفكران من كل "معدة "  وسقاية كانت تعبر المدينة .

لأول مرة ألاحظ أنها تتحسس الأرض بعصاها ، أحسست بأمر تخفيه عني ، وأنا أسير معها كمغفل الحلقة ، أحست برغبة قوية تدفع  بي إلى النظر في وجهها بالمباشر، وتفحصه بالتمام والكمال. حينها كشفت عن سرها الذاتي وكأنها تسترق سمع تداول أفكاري الداخلي، ما لك؟  يا من الإحسان من مكونات حروف اسمه والكرم من مركب لقبه ؟ فأجبتها لا شيء سيدتي ولوحت برأسي بالإيجاب ، لكنها قالت لا عليك فأنا كفيفة ،لا أرى ...صدمت من الخبر من هوله الأول ، كيف كانت تنبهني من فجوات الحفر الممتدة عبر دربنا ؟ كيف تخبرعموم الناس والمارة ؟ . وحتى يطمئن قلبي بالإيمان لحالة إبصارها لوحت بيدي اليمنى أمام أطراف عيونها . يا ربي ، يا رحمة قلبي عليها ، المرأة عمياء النظر حقا ، طرف عينيها لا يرتد بتاتا ، هنا وقفت منتصبة القامة وخاطبتي ألم تؤمن بأنني عمياء ؟ !!!   في حينها استجمعت حيرتي، و حاولت أن لا تحس لالة الشريفة برجتي الداخلية . لكنها والله كانت تسبقني حتى إلى بناء آليات تفكيري ، ووعيت بالأمر حين ضغطت بقوة حسرة على يدي  لنتمم سيرنا .

سبقتني إلى الحكي عن وضعيتها العائلية ، حقا لقد صدقت حين ناديتني بالشريفة ،حقا أن نسبي مرتبط بالأدارسة ، وفيه حكاية أطول سيأتي وقتها وأحكيها لك بالتفصيل.  لكن ونحن نسير الرويدا  أفضت لي قليلا من القول ، أن أيام السيبة والفتنة ضد دولة الادريسية ، جعل أسرتها تطلب حماية أمازيغ أطراف المدينة الغربية ، وهو الأمر الذي نقل أسرها من العادات العربية إلى التقاليد والأعراف الأمازيغية ، هنا وقفت على حقيقة مغربية فريدة ، وهي تلاقح الحضارات وتذويب الخلافات من خلال التسامح والتآخي وتجاوز كل المعيقات السلبية للاثنية.

منذ اللقاء بها في تسكعي بالمدينة القديمة ، لم تراودني نفسي بطرح ولو سؤال يتيم عليها ، تركتها تتحدث معي كقارئة الفنجان . لكن الآن أصبح الود بيننا يسري بعد أن أمدتني ب (كسرة) قطعة من الخبزة . هنا  استعملت المثال المغربي " شاركت معها الملح والطعام ". ثم ناولتها بالسؤال الشريفة ، وما حدث لعينيك؟ . رفعت رأسها باتجاهي لأول مرة ، فأصابني الألم العميق ثانية وسكن دواخلي ، إنه البياض الذي يسكن عيونها بالسيادة ، وتهت في التداول اللغوي الداخلي " مسكينة عمياء....مسكينة بصيرة ...مسكينة كفيفة ... إنه الإطناب الداخلي  ..."  لكن في كشف لثام الحايك لي ، هو إصرار بأن لا تجيبني  في تلك اللحظة عن سؤالي....

 سادتي الكرام ، والله أشفقت عليها من قلبي ، وتناسيت وضعيتي المأزومة ... واصلنا سيرنا إلى أن وصلنا إلى ضريح الشيخ الكامل ، حينها نزعت يدها عن مرفقي وتيمنت بالدخول بعد أن دقت بعكازها ثلاث مرات على الأرض ، كنت لا أعرف المكان  إلا من ملمحه الخارجي ، كنت أجهل معالمه الداخلية إلا ما يحكى لي من جذبة ونحر وأذكار...لم أدخل تباعا لها ، بل دخلت عيوني وراءها خطوة  خطوة  إلى أن بلغت سدة الضريح .رفعت رأسها إلى السماء العالية ، لا ألحظ إلا تحرك الشفاه دون الصوت ...حينها عرفت أنها مهووسة بالأضرحة ...عرفت أن لها رابط موضوعي يحيلها إلى الزوايا ، وعيت بكلام القطع أننا لا زلنا نحتكم في أمورنا الدنيوية والمستقبلية إلى المزارات الموزعة بيننا بشجرة الأنساب....

دهشة انتابتني بالملاحظة ، حين توافد عليها مريدو الضريح وأقبلوا على تقبيل يدها ، وهي تمرر يدها على رؤوسهم بالرضى والقبول . هنا تأكدت بمطلق المنطق العلمي ، أن الماضي لازال يشدنا إليه بقوة ، هنا عرفت أن الماضي يحكمنا ويخطط لمستقبلنا ، هنا لاحت لي الحياة ككتاب له صفحة واحدة وفريدة ، من خبر قراءتها وأحسن تقبيلها بالتقليب ، كان من الناجين الناجحين في سلطة اليد ، وأصبح من أهل الحل والعقد ، وحط رحله بالبرلمان أو الوزارة .

خرجت لالة الشريفة من الضريح بعد أن تصدقت على مريديه بما بقي من الخبزة ، حيث كانت الأيدي تتخاطف أجزاءها للبركة وامتلاك صكوك الغفران !!!   آه ، يا وطني الأعز،  نفس الصورة  تنجر على الانتخابات التشريعية ، ونحن نحكم بالنوايا الدينية لا بالأفعال الديمقراطية والحكامة . لحظتها سمعت رنة هاتفي الضائع بين جيوب ملابسي ، وحين لامست زر الجواب ، كان صديقي الطيب على الهاتف يدعوني للقاء معه ...قبلت دعوته ...واقتربت من لالة الشريفة وعرضت عليها خدماتي المجانية، لكنها رفضت لأنها كانت بالقرب اللصيق بي حين كنت أحادث صديقي ...لكنها أرخت لي وعدا بأن اللقاء التالي سيكون جمعة بباب الرايس قرب مدفن السلطان المولى إسماعيل ...و وعدتني بالحكي عن ذاتها وعن سر معرفتها لي ....

 

(قصص الصوم : لقاء تقايس الأبدان والأمكنة  (ج4))

 

ذ محسن الاكرمين

جميع الحقوق محفوظـة © المرجو عند نقل المقال، ذكر المصدر الأصلي للموضوع مع رابطه.كل مخالفة تعتبر قرصنة يعاقب عليها القانون.
الكاتب : محسن الأكرمين
المصدر : هيئة تحرير مكناس بريس
التاريخ : 2016-06-15 21:36:12

 تعليقات الزوار عبر الفايسبوك 

 إعلانات 

 صوت و صورة 

1  2  3  4  5  6  7  8  9  المزيد 

 إنضم إلينا على الفايسبوك