آخر الأحداث والمستجدات 

تعريف الصيام وحكمه

تعريف الصيام وحكمه

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى وآله وصحبه الشرفاء، وبعد:

فإن الله اصطفى شهر رمضان وميزه عن غيره وجعل له خصائص عظيمة ومزايا حسنة، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]. ولا شك أن العمل الصالح في هذا الزمان الفاضل يُضاعف أضعافًا عظيمة.

وكثيرٌ من الناس يتصور أن حقيقة الصوم هو ترك الطعام والشراب والجماع وغيره من الملذات المباحة قبل الصوم، ويقصر فهمه عن إدراك حقيقة الصوم وأهدافه وثماره العظيمة.

كما أن الإلف والعادة جعلت كثيرًا من المسلمين يقوم بالصوم ويمسك عن المفطرات من غير استشعار لمعنى التقرب والتعبد لله وتحقيق الحكمة فيه.

والصوم عبادة جليلة وهو سر بين العبد وربه، وهو يشتمل على معاني عظيمة وأسرار وحكم خطيرة يُبصرها ويَتفكر فيها من فتح الله عليه من عِباده، وهم ما بين مُقِل ومستَكثِر؛ فمنهم من يحيط بكثير منها, ومنهم من يدرك طرفًا منها بحسب النور الذي يقذفه الله في قلب المؤمن. وإليكم شيئًا من تلكم المعاني والحِكَم:

1- إن حقيقة الصوم -إضافة إلى ترك الملذات الحسية- ترك أيضًا جميع المحرمات والآثام، صوم القلب عن الوساوس والشبهات وصوم السمع والبصر عن الخطايا، وصوم اللسان عن الآفات، وصوم الفرج والبطن واليد والرجل عن المعاصي والذنوب؛ فالصوم مفهوم واسع يشمل صوم القلب وسائر الجوارح عن المحرمات الحسية والمعنوية، وقد نبه الله العبد في تركه الملذات الحسية على ترك جميع المعاصي والآثام..

فإذا كان العبد مطلوبًا منه ترك ما كان مباحًا له قبل دخول الشهر، فلئن يترك وينأى بنفسه عن المحرمات التي حرمت عليه طيلة السنة من باب أولى. قال رسول الله  : "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجه أن يدع طعامه وشرابه"[1]. وقال عمر رضي الله عنه: ليس الصيام من الطعام والشراب وحده، ولكنه من الكذب والباطل واللغو والحلف.

2- إن الله عز وجل أمرنا وتعبدنا بترك الطعام والشراب والملذات ليس لتعذيبنا ولا تكليفنا بالمشقة، وإنما لتحقيق العبودية والتقرب إليه والافتقار والذل إليه، وذلك أن العبد إذا ترك ما كان مُحببًا له ويشتهيه لأجل الله، وقدَّم محبة الله على محبوباته كان عبدًا لله. وهكذا كلما تذلل العبد وافتقر لله كان أكمل عبودية له، وهذا معنى العبودية الحقة أن يُسلِم العبد أمره لله، فيترك ما حرمه ويمنع ما منعه ويُبيح ما أباحه، فكل أمره لله. قال الله عز وجل: "يدع طعامه وشرابه وشهوته لأجلي"[2].

ولذلك تتحقق العبودية وتكمل في مقامات الذل والافتقار لله:

أ- في دعاء الله واستغاثته بالله؛ ولذلك فإن الله يحب الملحين في الدعاء.

ب- وفي سجوده وإذلال أشرف أعضائه؛ ولذلك أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.

ج- وفي ذبحه ونهره الدم لله؛ فإنه ما شيء أحب إليه من دم مهراق.

3- وفي صوم العبد وإمساكه يتعود على الصبر على طاعة الله والصبر عن معصية الله، فإذا داوم على ترك الملذات طاعة لله وصَبُرَ على ذلك رجاء ثواب الله ورضوانه، أكسبه ذلك قوة في تحمل كلفة العبادة، وقوة في تحمل ترك المعصية، وقوة في ترك ما ألفته نفسه واعتادته من العادات والأخلاق غير المحبوبة لله. قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]. وقد فسر مجاهد وغيره الصبر بالصوم. ولهذا يُسمى شهر رمضان بشهر الصبر، وقد رُوي في السنة: "الصوم نصف الصبر".

4- في صوم العبد عن الملذات في رمضان يتجلى معنى عظيم، هو افتقار العبد لمولاه وأنه مملوك ومدبر تحت تصرف سيده، ليس له من الأمر شيء.. الأرض أرضه, والعبيد عبيده, والأمر أمره, والكل تحت سلطانه وقهره؛ فالعبد يمسك طيلة يومه عن ما حرمه الله عليه ولا يُفطر حتى يأذن الله له بغروب الشمس، ولو خالفه كان عاصيًا لله فلا ينتفع برزق ولا أرض ولا مال إلا فيما أباحه الله وأذن له، وهذا يدل على ملازمة الفقر للعبد وغنى الله المطلق. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [فاطر: 15، 16].

5- في صوم العبد تضعف شهوته ويقل أثر الشيطان عليه أو يزول بالكلية ويقوى إيمان العبد؛ ولذلك إذا صام العبد عزف عن الشهوات وأقبل على الطاعات وسلم من الشبهات. وبهذا يستطيع العبد أن يتخلص من سلطان الشيطان ويقوى على مقاومته. ولذلك ورد في الصحيح: "‏إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم"‏‏. وأرشد النبي   الشاب ذا الشهوة الذي لا يقدر على الزواج بالصوم ليُطفئ شهوته ويقيه الفتنة. قال رسول الله  : "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء"[3].

6- وفي شهر الصوم وكثرة عباداته ونوافله يجتهد العبد في الطاعة، فإذا اشتغل العبد بالصيام والقيام وتلاوة القرآن والذكر والإحسان صار من أهل النُّسك، وتعود على الطاعة ونشأ لديه ملكة نفسية وإقبال في التقرب والتعبد لله، وهذا معنى لطيف؛ ولهذا كان رسول الله   يجتهد في شهر رمضان ما لا يجتهد في غيره، وإذا دخلت العشر الأواخر شدَّ مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله.

7- وفي صوم العبد وجوعه وعطشه يشعر بحاجة الفقراء والمساكين المحرومين، ويحس بألمهم ومعاناتهم، فلئن حُرم من الملذات شهر رمضان باختياره مع قدرته على الترف، فالفقراء محرومون من النعيم طيلة السنة رغمًا عنهم. وإذا استشعر العبد هذا حمله على البذل والإحسان إلى البائسين، وتفقد أحوالهم وقضاء حوائجهم، وصار رحيمًا قريب الشفقة كسير القلب، وهذا هو مقام الإحسان إلى الخلق. قال تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].

ولذلك "كان رسول الله   أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل"[4]. وقد رغب الشرع المؤمنين بالإحسان في هذا الشهر، فقال رسول الله  : "من فطر صائمًا كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء"[5].

8- وفي صوم العبد عن الملذات يتجلى معنى عظيم وحكمة جليلة في نفس المؤمن، هي تركه للترف وما ألفه من الشهوات والتوسع في المباحات واعتياده على التقلل من الدنيا والشعور بقرب الرحيل منها. وهذا هو مقام الزهد الذي يسلكه الكُمَّل من أهل الإيمان. وقد كان رسول الله   من أزهد الناس، وكان الصديقون والصالحون زاهدين في زخرف الدنيا وزينتها طيلة السنة، فإذا دخل شهر رمضان لم يجدوا ما يجد غيرهم من المشقة ولم يفقدوا الكثير. قالت عائشة -رضي الله عنها- في وصف عيش النبي  : "إنا كنا آل محمد ليمر بنا الهلال ما نوقد نارًا، إنما هما الأسودان التمر والماء"[6].

فلا يليق بالمؤمن أن تكون هيئته وحياته هيئة المترفين والمتكبرين وأهل الشهوات. ويتكرر معنى الزهد في كثير من العبادات الجليلة كالتجرد من اللباس في الحج، وغير ذلك.

9- في صوم العبد يصفو الفكر ويرق القلب وتنكسر النفس ويصير العبد مخبتًا قريبًا من الله، فإذا ذكر الله استشعر قربه، وإذا دعاه دعاه بيقين وحسن ظن بوعده، وتقوى صلة العبد في هذا الشهر بكلام ربه، ويفتح الله عليه في تلاوة القرآن ما لا يفتح عليه في غيره، فإن قرأ وهو صائم صادف محلاًّ عظيمًا في تدبره وتعقله والتفكر به، فخشع قلبه وتأثرت نفسه واجتهد في ختمه.

ولذلك كان رسول الله   شديد العناية بالقرآن في رمضان، وكان جبريل عليه السلام يُدارس الرسول   القرآن كل ليلة. وكان السلف الصالح إذا دخل رمضان تركوا كل شيء واشتغلوا بتلاوة القرآن، ولهم في ذلك قصص ممتعة وأحوال عجيبة.

فالصوم له روحانية عظيمة وأحوال إيمانية في نفس المؤمن تجعله يتذوق حلاوة الإيمان، وطعم العبادة، ومناجاة الخالق والتعلق به، والتفات القلب إليه.

10- في صوم العبد تكفير لخطيئته وغسل لحوبته وغفران لذنبه ورفع لدرجته ومنزلته. قال رسول الله  : "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"[7]، وقال  : "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر"[8]. ويعتق الله عبيده في شهر الصوم، قال  : "وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر. ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة"[9].

فالعبد لما كان غافلاً في سائر السنة مسرفًا على نفسه بالذنوب والسيئات مقصرًا في النوافل والطاعات مشغولاً بجمع الدنيا، جعل الله له شهر الصوم ليُجدد العهد بالله ويغفر ذنبه ويوقظه من غفلته ويقوي عزيمته في الطاعة، ويتحرر من رق الدنيا وعبوديتها.

وكل هذه المعاني والحكم والأسرار يُرجى دخولها في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]. فكلها وجوه وأنواع للتقوى.

ومما يؤسف أن هذه المعاني تغيب على كثير من المتعبدين بالصوم، مما يجعل الصوم ثقيلاً عليهم، ويُرى تضجرهم منه ووقوعهم فيما ينقص ثوابه من اللغو والسباب والغيبة والنميمة، وتضييع نهاره بالنوم وليله بالسهر فيما لا فائدة فيه.

وإذا استشعر العبد حِكَم الصوم ومعانيه واحتسب صومه صار من أيسر العبادات عليه وأحلاها، وذاق حلاوته وأكثر منه كما كان رسول الله   يُكثر منه. قالت عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله   يصوم حتى نقول لا يفطر"[10].

وهذه العبادة العظيمة عبادة الصبر لا يُوفق لها إلا الكمل من المؤمنين الذين فتح الله عليهم فيها, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

ومن أكثر من الصوم وعرف به أدخله الله تعالى يوم القيامة من باب الريان، كما أخبر بذلك رسول الله   بقوله: "إن في الجنة بابًا يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد"[11].

والغالب على من ذلت نفسه بالصوم وداوم عليه أن يكون شديد التقوى والورع عما حرم الله، والموفق من وفقه الله تعالى.

بقلم: خالد بن سعود البليهد[12]

المصدر: موقع صيد الفوائد.

جميع الحقوق محفوظـة © المرجو عند نقل المقال، ذكر المصدر الأصلي للموضوع مع رابطه.كل مخالفة تعتبر قرصنة يعاقب عليها القانون.
الكاتب : هيئة التحرير
المصدر : هيئة تحرير مكناس بريس
التاريخ : 2015-06-19 20:25:44

 تعليقات الزوار عبر الفايسبوك 

 إعلانات 

 صوت و صورة 

1  2  3  4  5  6  7  8  9  المزيد 

 إنضم إلينا على الفايسبوك