آخر الأحداث والمستجدات 

صديقي الطيب (ج5)

صديقي الطيب (ج5)

إهداء : كل تشابه في الأسماء والوصف ،ما هو إلا مجرد صدفة ، وممكن أن يجد كل واحد منا نفسه معني بالحكي ،ما عليكم إلا استبدال الأسماء والأمكنة فقط .

بعد مهاتفة ثانية استوفت تحديد مكان وزمان اللقاء بصديق الطفولة الطيب،  ابن أسرة المحراث والمحراب . هو خامس إخوته ، لكن الصفة الثابتة عليه ابن الفقيه .  نعم ، من أسرة مكناسية زيتونية المنشأ تمتعت بشارة حمل كتاب الله حفظا ومذاكرته فقها جيلا بعد جيل . أول معرفتي به كان بمسجد سيدي مبارك بحومة زعير/الزيتون . جامع كنا نتلقى فيه تعليمنا الأولي والممثل آنذاك في حفظ القرآن وقواعد التزويد والترتيل والكتابة على اللوح الخشبي بالصمغ. ولم يكن فقيه كتاب مسجدنا إلا جد الطيب رحمة الله عليه .

في تلك الحقبة كنا نفترش أرضا الحصير فقط ، ونبقى جالسين عليها مدة تزيد عن أربع ساعات حتى ترسم ثنايا الحصير الطبيعي على مؤخراتنا رسما تجريديا . وكنا نجلس صفوفا متباينة بلغة الفئات المتناسقة تعليميا -(التدريس بالفئات المتجانسة) -، أي بين من اقترب من ختم القران،  وبين من لازال حديث العهد ولا يفك رموز الحرف قراءة ، ولا الرسم الحرفي  كتابة. 

أول معرفتي به كان الشغب الطفولي ، حيث اقترفنا جرم الأكل من شجرة الفقيه المفضلة التين (الكرمة) ، آثار الجرم لحقنا بمسرح الجريمة (الكرمة) ونحن صعودا على أغصانها ، فيما توطن الفعل بشهادة الأقران وبينة الاعتراف الطوعي.

كنت واثقا من أن الجرة لن يسلم سمنها ذلك اليوم،  ولو حتى بوجود حفيد الفقيه بجانبي ، فلن يشفع قربه العائلي من معاقبته ... وكان حدسي صادقا ، حيث نلنا من الضرب ما ناله طبل الطبال يوم العيد أو أكثر. لن أحك لكم تفاصيل عملية السلخ بكل أنواع قطبان الأشجار من الزيتون، مروا بأعواد التوت، ووصولا بشطابة الأوقاف المصنوعة من القصب والدوم . وأخيرا بمعلقة ، نعم معلقة كنا نتساءل غير ما مرة قبل حادث الكرموس عن دور تواجدها ، إلى أن حان اليوم الموعود ، فاتضح دورها جليا بالمرموز، حينها تعلمنا درسا تجريبيا وعلميا بالدقة والدق على أجسادنا ، انتقلنا فيه من الملاحظة (التعليق وتوثيق الأرجل ) ، إلى طرح الفرضيات (تمديدنا منكوسي الرؤوس وإحكام حركاتنا من طرف أكبر المحاضرية (طلاب الجامع ) )، إلى التجريب على أجسامنا الطرية (الضرب والسلخ والفلقة) ، إلى استخلاص القاعدة والنتائج السببية ( الابتعاد عن شجرة تين الفقيه / الكرمة ) .

انتهت معركة الكر علينا عدة مرات إلى أن تيقن الفقيه أنه  استخلص كرموسه ( تينة/ تينة) بعلامات موشومة على مناحي كل فقرة بأجسامنا، واستنفد جميع قواه الجسمية والجسدية. بعدها فك قيدنا وسراحنا بوابل من السب والشتم الذي لحق حتى الآباء في مقرات عملهم . كل عيون رواد المسجد عند خروجنا من قاعة العمليات- (غوانتانامو) -  القهرية للنفس والذات متجهة نحونا بالرؤية والشفقة لحالنا ودمعنا ودمنا ، فيما كان الخوف الأشد يسكن كل العيون كليا . لما لا، ونحن العبرة ونتاج التدبير بالنتائج الحقيقية الخارجة من محكمة التفتيش.

 ترجلنا ونحن نترنح على أصابعنا الأمامية، وكأننا نرقص على أنغام الدقة العيساوية بقيادة المقدم الحداد الزيتوني . لكن اللحظة لم تمنعنا من إعلان صلابتنا وتحملنا وقوة عزيمتنا أمام الأقران و الأنداد... ، هنا نظر إلي الطيب والدم يسكن أنفه الأيمن قليلا ، ثم أطلق ضحكة مدوية كادت أن تصل إلى أذن الفقيه فننال الشوط الثاني من العذاب ، وممكن أن يستعين الفقيه بالوقت البدل الضائع من مباراة الرفس . لكن والحمد لله قلة سمعه ، وتعبه من صرع الأجسام الصغيرة وإخراج جنية (الكرمومسة) منا أنجتنا بأمان . فيما سرعتنا في المشي بالهرولة ازدادت ، بل أضحت تبعث على الضحك والبكاء على السواء. فبعد أن أصبحنا لا نقدر على وضع أقدامنا على بساط الأرض ، هذا الأمر جعلنا نبتعد من ساحة حرب الكرموسة (الورناكسية /وهو نوع تين شجرة الفقيه) بسرعة كمن بعثه القائد في أمر مستعجل.

 حينها حمدنا الله على عدم الإعادة (البطيئة ) ، ومن القول الفلسفي الأول في حياتنا بأننا لا يمكن أن نسبح في نهر الضرب مرتين . ضحكة الطيب الفريدة، نزلت علي أمنا وسلاما من نار غضب الفقيه، ثم ماثلته بنحوها وأنا أغمض عيناي من شدة الألم و الرضوض (الكدمات) ،  ونحن  نسير ونبتعد عن بوابة المسجد ولا أحد منا أراد أن يلتفت خلفه خوفا من صعقة ديكتاتورية تمركزسلطة فقيه المحلة .

خرجنا من الجامع/ الكتاب، وكل منا يمسح دمع الآخر بكلمات مضحكة. و كأننا ننفس عن غيض دواخلنا ، ونرجع لذواتنا توازنها النفسي ، وأنفتها الإعتبارية.  وكان خير ختم أول لقاء بالطيب، وترسيم بناء صداقة مستديمة حين سألته ، كيف جاءك كرموس الجامع ؟ أجابني نعم، كان كرموسا حلوا وطايب (مبرع والله )   ويستحق كل آثار الندوب الباقية بأجسامنا . لكنه تأسف عن كرموسة كبيرة لم تستطع وصول يده إليها . هنا ابتسمت ضاحكا ورافعا رأسي إلى السماء وقلت له، هل نعيد الكرة ! لوح برأسه بالرفض لأنه نال التأديب الدامي أكثر مني، وقال: سيأتي يوم سنعيد فيه اللعبة مع الكرمة والكرموسة ، ولن يستطيع فقيه الجامع أن يحكم قبضته علينا بالضرب والتحكم الاستبدادي... كانت هي بداية صداقتنا إلى اليوم . 

آه ، لو حدث الآن في المدرسة المغربية ما حدث لنا بالبينة والبرهان الأزرق بالجسد والدم النازف من الأنف ... لحضر القانون ، ولنصبت يافطات كل الجمعيات الحقوقية وجمعيات (ما تقيش ....) ، فيما الصحافة لنشرت خبرا في صفحاتها الأولى"  أن رجل دين عنف أطفالا صغارا على (كرموسة) بعد صلاة الغسق وهو لازال يحمل بين يده مصباح الإضاءة (لامبة ) ..." .

فيما نتائج االتحقيقات واللجان، وحتى اللجان المضادة يمكن أن يكون أثرها الإجرائي " هو مطالبة أعلى سلطة في البلاد بإعفاء رجل الدين الذي تلوثت يده بضرب طلاب العلم، وعلى إقرار الحق في أكل (الكرموسة ) شياعا بالتساوي، والدفع به (الفقيه)  إلى تقديم استقالته من محراب حكم المأمومين، وبإغلاق الجامع إلى حين تثبيت كاميرات للمراقبة ضد الضرب والجرح واستعمال العنف والشطط في سلطة تدبير الشأن الداخلي للمسجد  ، وقطع شجرة التين (الكرمة)  من الجامع لما لها من إثارة للفتنة بين رواد المسجد...".

اختلف التموضع الزمني والمكاني،  واختلفت بيئة الزيتون والمدينة من خضرة إلى قرمود ( ياجور) أحمر، وفسد المجال الحضاري /العمراني ، وباتت تحدث تجمعات سكنية وسكانية  ليست به مقومات المدينة الحضرية،  حتى النزر القليل فيما أورده ابن خلدون في مقدمته ، وعند أرنولد جوزيف توينبي ولاسيما في موسوعته التاريخية المعنونة تحت إسم " دراسة التاريخ " لا مسند له في مدينتنا.

نهب مياه وادي بوفكران من المصب، جعل السيل الفيضي ينقطع عن عراصي الزيتون ، القصبة / أكدال، الروى (باب البطيوي)، العويجة ... وعن دور ومساجد وحمامات المدينة القديمة ، حتى صهريج المولى إسماعيل (صهريج السواني ) نال نصيبه من سوء تدبير المجال البيئي المديني وانقطع عنه تراث أقبية  التزود بالماء الحلو ، وانقطع فيضه الإضافي الذي كان يروي جنانات باب بالقاري بالخضرة وأشجار الفاكهة البلدية . إنها التحولات التعيسة نحو الأسوأ والتي أضحت المدينة تتعايش معها بالصمت والقبول والتلويح من تحت الجلباب بالأصبع على الغائب المجهول .... ، وكأن المدينة أضحت من لازمة شطر المغضوب ... ولا الضالين ... !!!

فبعد اللقاء في الموعد المتفق عليه سلفا . سبقتنا مجموعة من الآيات المحفوظة لدينا اجتماعيا من سؤال عن الصحة ،الأسرة، والعمل... ثم استوى بيننا المقام بجلسة بمقهى دخان السجائر المنبعث منها تحسبها فرانا بلديا . لكني خبرت الوضع ولم أتكلم بأسلوب التوعية والسلوك الاجتماعي والصحي، فمازال الطيب يدخن بشراهة ، وقهوته (نص نص ) لازالت حاضرة لا تفارق طاولة مقعده .

الآن، وبعد غياب من الزمان غير المعدود نجلس .  جلسة سيغلب عليها بسط أحداث الماضي ، خصوصا مجموعة من ذكريات نزق الطفولة والشباب بكل من عراصي الزيتون والعويجة والروى . إنه الطيب الذي يحسن حكي الأحداث ، ويحفظ كتاب ألفية الإمام مالك في النحو والصرف العربي ، إنه الطيب الذي يتحف السامع بقصص ومشاهد وثقها بصدق وأمانة . لكن جبة الفقيه الوراثي لا زالت تلازم حديثه فالدين حاضر، والفتوى عبر المذاهب الأربعة موجودة من خلال تخصصه في الفقه المقارن.

قصتنا اليوم حضر فيها الماضي وغاب عنها الحاضر ، لما الأمر يا ترى ؟ إننا نبتهل بالماضي ، نحتفل به في أعيادنا ومواسمنا ، نمجد الماضي وكفى .فرغم سلختنا الكثيفة بنزول عصا الفقيه على أجسادنا فإننا نحٌن إلى تلك المرحلة بقمعها بتمردنا ، بمحاولاتنا الطفولية غير المستكينة لإخراج الحرية من قمقم الزجاجة ، بانخراطنا الطوعي ضمن نضالات الأحزاب الوطنية ، بتعليق ورقة (لا للدستور)  باللون الأزرق على بوابة باب كبيش ، وانتظار حضور المقدم والخليفة وتطويق الحي لمعرفة الفاعل،  ونزع كلمة (لا ) من الأفواه وصناديق الاقتراع ، وضد الدولة العميقة....

لما يا ترى نبخس الحاضر ؟ إنه فعل التآكل العمري الذي يوجهنا قسرا إلى لحظة الشباب وشقاوته ، إنها الوضعية الهرمة / المتدنية للمدينة بالمقارنة مع الماضي القريب ، إنه تخلينا الطوعي والإكراهي عن أخلاق وثقافة مدينة مك...وناس . إنها حقيقة طمس معالم مدينة لا نعلم بأسماء من يتزعم حركتها إلا ما يوحى إلينا بالقول والحكي ،  وعلمناه بالتواتر في المقاهي وخلف دخان سجائر رخيصة وشيشة حارقة ...

ذ محسن الأكرمين

مدينة أنقدوا...(ج6)

جميع الحقوق محفوظـة © المرجو عند نقل المقال، ذكر المصدر الأصلي للموضوع مع رابطه.كل مخالفة تعتبر قرصنة يعاقب عليها القانون.
الكاتب : محسن الأكرمين
المصدر : هيئة تحرير مكناس بريس
التاريخ : 2016-06-25 20:03:10

 تعليقات الزوار عبر الفايسبوك 

 إعلانات 

 صوت و صورة 

1  2  3  4  5  6  7  8  9  المزيد 

 إنضم إلينا على الفايسبوك